لم يعد سراً خافياً على أحد البوح بأن مؤسسة التأمينات الاجتماعية باتت تشكل الملجأ الآمن و الحضن الدافئ الذي يلجأ إليه العامل عند الشدة أو بلوغه من الكبر عتياً , فما كان للإنسان أن يشعر بطعم الراحة و الإحساس بالطمأنينة و السكينة , إلا بتأمينه ضد مخاطر الحياة و مفاجآت المستقبل المجهول , وذلك بضمان مستوى مقبول لمعيشة كل مؤمن عليه عند فقده القدرة على الكسب , لذلك سعت التأمينات الاجتماعية و منذ أن بدأت إرهاصاتها الأولى بالظهور إلى إيجاد كل أسباب توفير مستقبل آمن للفرد العامل و أسرته .
و تتميز التأمينات الاجتماعية عن غيرها من العلوم الاجتماعية الأخرى بعدة خصائص تجعلها ضرورة حياتية يومية و حتمية للفرد و المجتمع معاً و هذه الخصائص تتجلى في كونها :
إلزامية : فقانون التأمينات الاجتماعية نص على : (( يكون التأمين في المؤسسة إلزامياً بالنسبة لأصحاب الأعمال و العمال, و لا يجوز تحميل العمال أي نصيب في نفقات التأمين إلا فيما يرد به نص خاص )). و هي بذلك تلزم الخاضع لأحكامها التقيد بقانون التأمينات الاجتماعية لجهة الاشتراك عن أي شخص ينطبق عليه تعريف العامل , ذلك أن عدم الاشتراك عنه حرمان له من حق نص عليه القانون , فكل عامل مؤمن عليه بنص القانون .
الشمول : فهي تشمل كل فئات العمال و كل المهن بأنواعها و تسري أحكامها على الجميع دون استثناء , فهي لا تميز بين عامل في مهنة ما و عامل في مهنة أخرى , إضافة إلى أن جميع العمال مشمولون بتأمين إصابات العمل دون استثناء .
التكامل : فالتأمينات الاجتماعية تامة و وافية , لا نقص فيها و لا جهل يعتريها , توفر للعامل و صاحب العمل المعرفة , وتكسبه الخبرة في مجال العمل التأميني , و تشكل صناديقها التأمينية وحدة متكاملة بحيث تؤمن غطاءً تأمينياً للعامل و صاحب العمل معاً ,فهي توفر للعامل المؤمن عليه عند الحاجة معاش الشيخوخة و معاش العجز الطبيعي و معاش الوفاة الطبيعية و معاش عجز الإصابة و وفاة الإصابة و المعونة اليومية و العلاج و التعويض , و بالمقابل فهي ترفع عن كاهل صاحب العمل المشترك كل هذه الالتزامات تجاه عماله و تلتزم بها التأمينات .
التوازن : فهي توفر التوازن في المجتمع بين أفراده بحيث تخلق تناسقاً و انسجاماً و ترابطاً يدعم المجتمع و يقويه , فعالم الأعمال يتكون أساساً من العمال و أصحاب الأعمال . و يتجلى دور التأمينات من خلال القيام بدور الوسيط بين طرفي الإنتاج , فلا يطغى طرف على آخر و ذلك من خلال التقيد من قبل الطرفين بقوانينها و تعليماتها , فلصاحب العمل حق على العامل بأداء عمله بدون تقصير و على الشكل الأكمل , و للعامل الحق بالاشتراك عنه بالتأمينات من قبل صاحب العمل بحيث يضمن مستقبل هذا العامل بمعاش أو تعويض مناسب يجعله لا يعيش عالة على مجتمعه , و بالتالي يكون هناك توازن يوفر استقراراً في المجتمع .
الواقعية : لم تأتي من فراغ فالتأمينات تراعي واقع الإنسان العامل من حيث مخاوفه و طموحاته و مشاعره و أحاسيسه و جوانب الضعف و القوة فيه , و هي بذلك تقدم له من التشريعات و الخدمات ما يتناسب مع طبيعته و يلبي مطالبه بتأمين مستقبله بعيداً عن شبح الذل و الحرمان . و هي تتعامل مع العمال على اختلاف مستوياتهم بمعيار واحد بحيث تعطي الجميع حقوقهم التي أوجبها قانون التأمينات كاملة غير منقوصة . و الاشتراكات التي تقوم التأمينات بتحصيلها من طرفي الإنتاج هي واقعية تتناسب مع ما تقدمه من ميزات و خدمات للاثنين معاً .
الإيجابية : تعمل التأمينات على بناء شخصية العامل بحيث تكون قوية ذات سلوك إيجابي , فتتعامل و تتفاعل مع الآخرين نتيجة توفر هذه المساحة الكبيرة من الطمأنينة و الأمان داخل نفس المؤمن عليه بضمانها لمستقبله و أفراد أسرته من بعده .
العملية : التأمينات حقيقة قائمة بحد ذاتها , أوجدتها ضرورات و متطلبات الحياة , وبالتالي فهي ليست نظرية فوق التطبيق . بل هي تجمع بين الواقع و العمل , فحيثما وجد عمل كانت التأمينات , و بوجودها يعود على الفرد و المجتمع النفع و الفائدة و بالتالي إرساء عوامل الاستقرار والأمان.
أخلاقية : إن التأمينات الاجتماعية تقوم بدور أخلاقي في بناء المجتمع و الفرد من خلال تأمين مستقبل آمن لهذا العامل الذي قضى سنوات عمره و زهرة شبابه في خدمة مجتمعه , و تكفل له حياة مريحة بعد مسيرة عطائه المنتج بتخصيصه بمعاش أو تعويض مناسب , و هي بذلك تعمل على التمسك بالقيم الأخلاقية ورد الجميل , وقد ورد في الأثر أنه ليس منا من لا يوقر الكبير .
إنسانية : لا يتوقف دور التأمينات الاجتماعية عند الاشتراك عن العامل بل إن دورها الإنساني يتجلى بقيامها بدور الوسيط النزيه بين العامل وصاحب العمل من خلال إرساء استقرار علاقات العمل بينهما , وكذلك توفير أجواء من الثقة المتبادلة بينهما , والجانب الإنساني في التأمينات يتجلى أيضاً من خلال توفير وسائل العلاج للعامل المصاب و تقديم المعونة اليومية له , و السعي لتقليل احتمال انتشار الأمراض المهنية و الإصابات , بتوفير الأمن الصناعي في المنشآت و تأمين أسباب الصحة و السلامة المهنية , وأيضاً علاج العمال المصابين على نفقتها و إجراء العمليات الجراحية لهم في الخارج إذا دعت الحاجة لذلك , كما أنها تساعد أهل المؤمن عليه المتوفى بمصاريف الجنازة , و تساهم أيضاً في تقديم المعونة المالية للعمال العاجزين الذين يحتاجون مساعدة الغير .
و في النهاية , لابد من القول بأنه حق للتأمينات أن تفتخر بأنها حافظة لأمن المجتمع , فهي ابنة المجتمع البكر , وراعية لهذا المجتمع و حق لها أن تكون تأمينات و واجب علينا أن ندعمها و نسعى للحفاظ عليها لتظل معلماً بارزا يدعم بقاء هذا المجتمع و استقراره .